سورة المجادلة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المجادلة)


        


{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)}.
التفسير:
قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}.
هكذا تبدأ السورة الكريمة، بهذه اللفتة الكريمة، من رب كريم، إلى امرأة من عامة النساء، لا يكاد يلتفت إليها أحد من قومها، بل لا يكاد يكون لها مكان ظاهر بين جيرانها الفقراء المغمورين من نساء ورجال.
فلقد سمع اللّه سبحانه قول هذه المرأة، التي جاءت تعرض على النبي شأنا من شئونها مع زوجها، وتشتكى إلى اللّه بين يدى النبي الكريم ماورد عليها من زوجها من أذى.. والنبي لا يجد سبيلا لإزالة ما تشكو منه.
والإخبار بسماع اللّه سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ليس مرادا به مجرّد العلم بمضمونه، فاللّه سبحانه وتعالى يسمع كل ما تنطق به الألسنة، وما تهمس به الخواطر، وما توسوس به النفوس. بل المراد بهذا الخبر- واللّه أعلم- هو التنويه بشأن هذه المرأة، وردّ اعتبارها إليها عند نفسها كإنسان كرّمه اللّه، وبعث إليه رسله بآياته وكلماته، وذلك بعد أن وجدت وجودها يكاد يضيع بيد زوجها الذي استخفّ بها، وعرّضها لهذا الضياع، ثم لم تجد عند رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- الحماية الكافية لردّ هذه اليد الباغية عليها، إذ لم يكن بين يدى الرسول الكريم حكم من اللّه، في شأن الظّهار والآية الكريمة، والآيات التي بعدها تشير إلى حدث وقع بين امرأة بعينها وزوج بعينه، وإن كان لم يذكر لهما اسم.. لأن ذكر الاسم هنا لا ضرورة له، إذ كان هذا الحدث وإن تعلق بهذين الزوجين، ينسحب إلى كل زوجين، وإلى المبادي التي تحكم الصلة بين الزوج ولزوجة، أو الرجل والمرأة.
ومع هذا فقد احتفظ تاريخ النزول القرآنى باسم كل من المرأة والرجل، كما احتفظ القرآن الكريم بالحدث الذي وقع بينهما.
يقول المفسرون: نزلت هذه الآيات في امرأة من الأنصار، من الخزرج، واسمها خولة بنت مالك بن ثعلبة، وزوجها أوس بن الصامت، أخو عبادة ابن الصامت الصحابي المعروف.. قالوا وكان منه غضبة على امرأته هذه، فقال لها مغاضبا: أنت علىّ كظهر أمي.. وكان الظهار من طلاق أهل الجاهلية، وقد ندم زوجها على ما قال، وقال لها ما أظنك إلّا حرمت علىّ، فقالت لا تقل ذلك وائت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال إنى أجدنى أستحى منه أن أسأله عن هذا، قالت: فدعنى أسأله. قالوا: فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم، وقالت:
يا رسول اللّه، إن أوس بن الصامت تزوجنى وأنا شابة ذات مال وأهل، حتى إذا أكل مالى وأفنى شبابى وتفرق أهلى، وكبرت سنى- ظاهر منّى، وقد ندم، فهل من شيء يجمعنى وإياه، فتنعشنى به؟ فقال صلى اللّه عليه وسلم: «ما أراك إلّا حرمت عليه»! قالت يا رسول اللّه، والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر طلاقا، وإنّه أبو ولدي وأحب الناس إلىّ، وإنى إذا فارقته وضم الأولاد إليه ضاعوا، وإن وأنا ضممتهم جاعوا!! فقال «ما أراك إلا حرمت عليه، ولم أومر في شأنك بشىء».
قالوا فجعلت تراجع رسول اللّه، وكلما قال لها رسول اللّه حرمت عليه، هتفت وقالت: أشكو إلى اللّه فاقتى، وحاجتى، وسوء حالى.. قالوا فما برحت مكانها، حتى أخذ رسول اللّه ما يأخذه من الوحى، فلما قضى الوحى قال: ادعى زوجك، فدعته، فتلا عليه الرسول الكريم الآيات الأولى من أول السورة.. وقال له: أعتق رقبة، فقال لا أجد، فقال: فصم شهرين متتابعين، فقال: لا أستطيع، إنى إذا جعت كلّ بصرى، وخشيت أن تغشى عيناى، فقال: فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ فقال لا واللّه، إلّا أن تعيننى على ذلك، فأعانه الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه بخمسة عشر صاعا.
هذا هو موجز القصة من بين الروايات الكثيرة المختلفة الأقوال في اسم المرأة، واسم زوجها، وإن كان هذا كما قلنا لا يؤثر في الحكم الواقع على الحدث نفسه، وهو الظهار.
وفى قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}.
فى هذا- كما قلنا- لفتة كريمة من رب كريم إلى تلك المرأة الضائعة في معترك الحياة، وتطييب لخاطرها، وأنه إذا كان الرسول الكريم قد استمع لشكاتها، ولم يجد لها عنده جوابا شافيا- إذ كان الظهار أمرا معترفا به في الجاهلية، ولم يكن الإسلام قد عرض له بشىء حين قرر أحكام الطلاق، حتى وقعت هذه الحادثة- نقول، إذا كان النبي قد استمع لشكاتها، ولم يجد لها عنده جوابا شافيا، فإن اللّه سبحانه، قد سمع هذه الشكاة، واستجاب لها، وطيب خاطرها، ورد لها اعتبارها، وأنزل العقوبة الرادعة بمن جار عليها.
ونلمح في الآية الكريمة شيئا من العتاب الودود من اللّه سبحانه وتعالى للنبى الكريم. وأنه إذا كان لم يكن بين يديه حكم اللّه فيما تشتكى منه المرأة مما فعل بها زوجها بهذا الظهار الذي أوقعه عليها، فإنه كان عليه- صلوات اللّه وسلامه عليه- ألّا يقطع في شأنها بهذا الحكم الذي يقضى بالفرقة بينها وبين زوجها- وأن عليه- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن ينظرها مدة حتى يقضى اللّه في شأنها، فإذا مضى زمن ولم ينزل في شأن هذا الأمر قرآن، أجراه على ما هو جار عليه.. فهذا الأمر- أمر الظهار- منكر وزور من القول- كما وصفه القرآن بهذا فيما بعد، وأمر هذا شأنه، كان على النبي أن يتوقف فيه إلى أن يتلقّى أمر ربّه في شأنه.
وقوله تعالى: {تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها} أي تحاورك، وتحاجك فيما وقع بينها وبين زوجها.. وفى هذه المجادلة ما يكشف عن أن المرأة تنكر هذا الظهار في شريعة هذا الدين الذي آمنت به، وأنها لو كانت على جاهليتها لما أنكرته، ولا ستسلمت لهذا الأمر الواقع.. وهذا يعنى أن الإسلام فتح على الذين دخلوا فيه آفاقا رحيبة مشرقة من التفكير السليم، والمنطق الحكيم، الذي يرفض الزور من القول، والمنكر من العمل.. فقد رأت المرأة على ضوء الشريعة الإسلامية، أن أمرا كهذا لا يتفق مع ما جاءت به هذه الشريعة من الرحمة والعدل، والسماحة واليسر.
ونعوذ باللّه أن نفهم أو يفهم مسلم، أن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه- قد غاب عنه ما في هذا الأمر من منكر غليظ، ولكنه صلوات اللّه وسلامه عليه- كان في مجلس الفصل والقضاء بحكم منصبه النبوي، وهو لا يقضى بعلمه هو، وإنما يقضى بما أوحى إليه من ربه وبما أراه اللّه من آياته وكلماته، كما يقول سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ} [105: النساء].
فالرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، وإن كان ينكر هذا الذي حدث من الرجل لزوجه، إلا أنه لم يكن قد جاءه من عند اللّه حكم في الظهار الذي كانت تتعامل به الجاهلية، وتعدّه ضربا من ضروب الطلاق، تحرم به المرأة على زوجها.
وفى قوله تعالى: {تُجادِلُكَ} إشارة أخرى إلى احترام الشريعة الإسلامية للإنسان، وإعطائه حقه كاملا في استعمال عقله، ومراجعة غيره، فيما يعرض له من قضايا الحياة.. ونرى هذا واضحا في موقف المرأة من النبي ومراجعتها رسول اللّه فيما رآه في الموقف الذي بينها وبين زوجها، حتى أنها لم تسلّم النبي بما رآه، وكان هذا الرأى عن اجتهاد في أمر لم ينزل فيه على النبي، حكم سماوى، كما أخبرها الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- في قوله: {ما أراك إلّا حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشىء}!! ولهذا سمّى القرآن موقفها هذا مجادلة، ولم ينكر عليها ذلك، بل جاءها بالرحمة الراحمة والفضل العظيم.
وفى إضافة المرأة إلى زوجها في قوله تعالى: {تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها} إشارة إلى أن المرأة لا زالت زوجا لزوجها، لم تحرم عليه حرمة مؤبدة، بل ما زال هناك سبيل إلى وصل هذه العلاقة التي توشك أن تنقطع، وفى هذا إرهاص بأن الخبر المقبل من السماء- وراء هذا الاستفتاح- هو خبر يحمل استجابة من اللّه سبحانه وتعالى لشكاة هذه المرأة ومجادلتها في أمر زوجها وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما} إشارة ثالثة إلى هذا الحوار الذي جرى في الحديث الذي كان بين المرأة وبين النبي.. فهى تتجه اتجاها، والنبي يتجه اتجاها آخر.. هى تريد ألا يكون الظهار طلاقا تحرم به على زوجها، والنبي يراه طلاقا تقع به الحرمة بينها وبين زوجها.
وفى الجمع بين النبي الكريم، والمرأة الشاكية، وفى التسوية بينها وبين النبي الكريم في إصغاء اللّه سبحانه، إلى هذا الحوار في قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما} في هذا ما يرفع من خسيسة المرأة، بل ومن خسيسة الإنسانية كلها، دون أن ينزل ذلك من قدر النبي، ومن مكانه المكين عند ربه.. وهذا من فضل اللّه على الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسمع اللّه سبحانه وتعالى لهذا الحوار، ليس سمعا مطلقا، إذ أن اللّه سبحانه يسمع كل شىء، في السماء والأرض.. ولكن السماع هنا سماع استجابة، وفصل في هذا الحوار.
وعبّر بلفظ السمع، دون الاستماع، لأن السمع يكون من غير طلب، على حين لا يكون الاستماع إلا بطلب، واللّه سبحانه يسمع كل شيء من غير طلب لما يسمع، سواء أكان هذا المسموع سرا أو جهرا، وقريبا أو بعيدا.
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} إشارة إلى أن سمع اللّه يحتوى كل شيء يقع في هذا الوجود، وأن هذه المسموعات جميعها واقعة في علم اللّه موقع المبصرات، حيث تكشف المسموعات لعلم اللّه، حقائق مشاهدة، فيقضى سبحانه فيها عن علم لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، كما يقول سبحانه لموسى وهرون: {إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى} [46: طه].
قوله تعالى: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}.
هذا هو بيان لحقيقة الظهار، وإنه منكر من القول، وزور من الكلام، لأنه يجعل من الزوجة أمّا، الأمر الذي لا يمكن تصوره، ولا تحتمل اللغة مدلولا له على هذا الوجه الذي تتعامل به الجاهلية.
وقوله تعالى: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ} جملة اسمية، هى خبر للمبتدأ: {الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ}.
و{ما} هنا نافية، تعمل عمل إن في لغة الحجاز، وتسمى ما الحجازية للتفرقة بينها وبين {ما} التميمية التي تفيد النفي، ولا تعمل عمل إن في لغة تميم.
و{أمهاتهم} خبر ما منصوب بالكسرة.
وقوله تعالى: {إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} هو توكيد لقوله تعالى: {ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ}.
و{إن} هنا نافية بمعنى {ما}.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} هو حكم على هذا القول الذي يقوله المظاهرون، وهو قولهم للزوجة: «أنت علىّ كظهر أمي».
فهو قول منكر، لأنه يضع الأمّ في صورة الزوجة، وفى هذا استخفاف بحرمة الأمومة، وامتهان لقداسة هذه الحرمة، ووضعها مع الزوجة على كفتى ميزان. في الحرمة، وفى الحلّ على السواء.. وهو مع ما فيه من منكر غليظ، هو زور من القول: فالزوج لا تكون أمّا أبدا، والأم لا تكون زوجا بحال.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إشارة إلى أن اللّه سبحانه قد وسع بعفوه ومغفرته، ما بقع من عباده من منكر وزور، إذا هم رجعوا إليه، وطلبوا عفوه ومغفرته: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [135: آل عمران] قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
بعد أن بينت الآية السابقة حقيقة الظهار، وكشفت عن زيفه وبهتانه، جاءت هاتان الآيتان لتبينا حكمه إذا وقع، وهذا من تمام الحكمة والتشريع، حيث يعرف وجه الأمر أولا، ثم يلحق به الحكم المناسب له، فيكون للحكم موقعه من العقول، وأثره في الأخذ به، والامتثال له، فعلا، أو تركا.
وقد اختلف المفسرون في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا}.
وهل معنى العود الرجوع عما قالوا والعدول عنه، أو العود إليه مرة أخرى، بمعنى أن يظاهروا مرة أخرى بعد المرة الأولى.. وبهذا القول يقول أهل الظاهر، وعلى هذا تكون كفارة الظهار عن المرة الثانية، أما الأولى، فلا كفارة عليها في مذهبهم.
والرأى المعول عليه، هو أن معنى العود لما قالوا، هو نقض ما قالوه، والرجوع عنه.. هذا ما يكاد يجمع عليه المفسرون.
ولكن يبقى بعد هذا ما يقال من أن اللغة لا تساعد على هذا المعنى، إذ يقال عاد إلى كذا أي رجع إليه، بعد أن فارقه، ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [28: الأنعام] وقد جاء في سورة المجادلة نفسها قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ} [8: المجادلة].. فالعود إلى الشيء، معناه الرجوع إليه، لا الرجوع عنه.
ونقول- واللّه أعلم- إن العود هنا هو بمعناه اللغوي، وهو الرجوع إلى الشيء.. والشيء المرجوع إليه هنا هو ما قالوه، وهو قولهم: «أنت علىّ كظهر أمي» ورجوعهم إلى هذا القول، هو رجوعهم إليه رجوعا متلبسا بنسائهم اللائي وقع عليهن هذا القول، حيث لا يكون لهذا القول وجه يرى عليه إلّا مع من وقع عليهن الظهار من النساء.
فالظهار، المعروف في الجاهلية كان يحرّم المرأة على الرجل، ويقطع العلاقة الزوجية بينهما، فإذا ظاهر الرجل من امرأته فلا سبيل إلى الرجوع إليها.
وقد واجه الإسلام هذا الظهار، ولم يعجل بالتعرض له، حتى يقع، فيلقاه بالحكم المناسب.. فلما وقع أول ظهار في الإسلام، وجاءت المرأة تعرض أمرها على النبي، تنزلت هذه الآيات، في شأن الظهار، وأنه لا يقطع العلاقة الزوجية قطعا باتّا، وأن على من يريد أن يعيد الحياة إلى حالها الأولى، أن يكفّر عن هذا القول المنكر، بما بينه اللّه سبحانه وتعالى في آياته البينات.
فقوله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا} معناه- واللّه أعلم- ثم يعودون إلى الموضع الذي قالوا فيه هذا القول، حيث يجدون نساءهم اللائي ظاهروا منهن، ولكن على ألا يمسوهن إلا بعد أن يقدموا كفارة هذا الفعل الآثم.
والسؤال هنا: إذا كان المعنى على أن يعود المظاهرون إلى نسائهم اللائي ظاهروا منهن- إذا كان المعنى على هذا، فلم لا يجىء النظم القرآنى هكذا مثلا: والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون إليهن؟.
ونقول: وكيف يكون القرآن معجزا إذا جاء على هذا المستوي البشرى من النظم؟ وهل يوزن كلام اللّه بهذا الميزان الذي يوزن به كلام الناس؟
ندع هذه التساؤلات التي لا محل لها، فما من مسلم إلا وهو على يقين بأن وراء كل كلمة من آيات اللّه أكثر من معجزة، وإن خفيت عليه.
وننظر في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا}، على معنى ثم يعودون إلى نسائهم.
فنجد أن إيقاع فعل العود على القول- لا على النساء المظاهر منهن- فيه مواجهة للمظاهرين بهذا القول المنكر الذي قالوه، حيث حين يعودون إليه، فيجدونه حائلا بينهم وبين نسائهم، ثم إنهم إذا أرادوا أن يدفعوا يده التي أمكنته من نسائهم، وحالت بينهم وبينهن- لم يكن ذلك إلا بعد أن يقدموا الثمن عاليا لدفعه.
وبهذا يتمثل هذا القول لمن يعود إليه- وهو في حاله تلك- ليدفعه عن زوجه- يتمثل له في صورة منكرة أشد الإنكار، حيث يراه وقد أخذ مكانه من زوجه، وحال بينه وبينها، وأنه حين أراد رفع يده عن زوجه، بذل في سبيل ذلك عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكينا.. على ما سنبين ذلك بعد قليل.
ولو وقع الفعل {يعودون}، على النساء، لاختفى وجه هذا القول، ولم يحسب له حساب في هذا المقام، الأمر الذي يفوّت الحكمة العالية من التشنيع على هذا المنكر من القول.
وقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} هو خبر لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا}.
واقتران الخبر بالفاء، لما في المبتدأ من معنى الشرط، فكأن المعنى قائم على جملة شرطية وجوابها، والتقدير: ومن ظاهروا منكم من نسائهم فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.
فتحرير الرقبة- أي عتقها من الرق- هو الكفارة التي تلزم المظاهر، حتى تحل له زوجه التي ظاهر منها.
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} هو قيد متمم للخبر، أي أن تحرير الرقبة يجب أن يسبق مسّ الزوج زوجه، إذ أنها قبل تحرير الرقبة تكون محرمة عليه، ولن يعيدها إلى الحل إلا تحرير الرقبة، إن كان المظاهر قادرا على ذلك.
والمراد بالمسّ، مس الشهوة، سواء أكان ذلك بمجرد اللمس، أو بالمباشرة، التي تكون بين الرجل والمرأة.
هذا، ويذهب بعض المفسرين إلى أن الحرمة إنما تقع على الرجل لا على المرأة، حيث أنه هو الذي ظاهر، وهذا يعنى أن المرأة لو مسّت الرجل بشهوة، فإنه لا حرمة عليها.
وهذا خلاف ما يشير إليه قوله تعالى: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} حيث أسند الفعل إليهما معا.. ولو كانت الحرمة بالظهار واقعة على الرجل وحده، لجاء النظم هكذا: من قبل المس مثلا، أو من قبل أن تمسوهن!.
وقوله تعالى: {ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي هذا الحكم الذي أخذتم به في كفارة الظهار، إنما ليكون لكم منه عظة وعبرة، فلا تعودوا إليه مرة أخرى، كما أن فيه زاجرا لغير المظاهرين، فلا يقع منهم ظهار، وقد عرفوا ماوراءه من بلاء.
وفى قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} تنبيه إلى أن اللّه سبحانه وتعالى مطلع على ما يكون من المظاهرين الذين يخونون أنفسهم، فيعودون إلى نسائهم من غير كفارة، وأنهم مؤاخذون بالتعدي على حدود اللّه.
وقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً}.
أي فمن لم يجد في يده رقبة يعتقها، فعليه صيام شهرين متتابعين، أي ستين يوما متصلة، لا يقطعها بفطر يوم أو أكثر، فإن قطعها، بدأ صيام الشهرين من جديد.. فمن لم يستطع صوم شهرين متتابعين، كان عليه إطعام ستين مسكينا.
فكفارة الظهار، مرتبة بهذا الترتيب: عتق رقبة، فمن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فمن لم يستطع الصوم فإطعام ستين مسكينا.. ولا يصحّ الإتيان بالثاني إلا إذا عجز عن الأول، ولا الصيرورة إلى الثالث إلا إذا لم يستطع الثاني.
وجاء النظم القرآنى في مواجهة تحرير الرقبة بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} على حين جاء في صيام الشهرين المتتابعين بقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ}.
لأن تحرير الرقبة لا يكون إلا عن وجد ومقدرة، وملك للرقبة.. أما الصيام فلا يكون إلا عن استطاعة وقدرة على احتماله.
وقوله تعالى: {ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}.
أي هذه الأحكام التي حكم عليكم بها، إنما هى لتصحح إيمانكم باللّه ورسوله، ولتقيمكم على دينه القويم.
وقوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ}.
أي هذه حدود اللّه، فالزموها، وخذوا أنفسكم بها، فإنّ تعدّى هذه الحدود، والاستخفاف بها، هو مدخل إلى الكفر باللّه، وللكافرين عذاب أليم.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ}.
الذين يحادّون اللّه: أي يخرجون على حدوده، ويستخفون بحرماته.
كبتوا: أي ذلّوا، وأهينوا.
والمعنى: أن الذين لا يمتثلون أمر اللّه، ولا يحرمون ما حرم اللّه، ولا يحلّون ما أحل- لن تكون عاقبتهم إلّا الخزي والهوان، والخسران.. هكذا شأن الخارجين على حدود اللّه، في كل زمان ومكان.. {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [18: الحج] وقوله تعالى: {وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} أي أن اللّه سبحانه قد بين للناس على يد رسله، مواقع حدوده، وأوضح لهم الطريق المستقيم، وأنه لا عذر لهم بعد هذا البيان المبين.. فمن كفر بآيات اللّه، واعتدى على حدوده، فله عذاب مهين.
وقد وصف العذاب في الآية السابقة، بأنه عذاب أليم، لأنه في حق المؤمنين الذين يعصون اللّه ثم لا يصالحونه سبحانه، بالتوبة إليه والعمل الصالح الذي يرضيه.
فهذا العذاب تأديب لهم، وإصلاح لا عوجاجهم.. أما ما جاء في الآية التالية من وصف العذاب بأنه عذاب مهين، فهو في حق الكافرين الذين يحادون اللّه ورسوله، وهؤلاء إنما يعذبون عذابا لا يراد به إصلاحهم وتأديبهم، وإنما يراد به إذلالهم وإهانتهم وكبتهم، لأنهم بكفرهم باللّه ومحادتهم له، استوجبوا هذا الهوان من اللّه {ومن يهن اللّه فما له من مكرم}.
وقد وضع المؤمنون العصاة المصرون على العصيان، موضع الكافرين، لأنهم بعصيانهم وإصرارهم على العصيان أقرب للكفر منهم إلى الإيمان.. ومع هذا فإن إيمانهم بإله واحد، هو ضمان لهم آخر الأمر، بالخروج من النار.
قوله تعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا.. أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} يوم: ظرف متعلق بقوله تعالى: {وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} أي أن للكافرين عذابا مهينا يوم يبعثهم اللّه جميعا.. {فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا} أي فيكشف لهم عن أعمالهم السيئة، ويدينهم بها.
وقوله تعالى: {أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ}.
الضمير في أحصاه، يعود إلى العمل المفهوم من قوله تعالى: {بِما عَمِلُوا} أي ينبئهم اللّه بعملهم الذي أحصاه سبحانه وجمع ما تفرق منه، على حين أنهم نسوا كثيرا مما عملوا، ولم يعودوا يذكرونه {وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي واللّه عالم كل شيء عملوه علم شهادة وحضور.
لا تخفى على اللّه خافية في الأرض ولا في السماء.


{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)}.
التفسير:
قوله تعالى: {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} النجوى: المناجاة التي تكون بين اثنين أو أكثر، في تخافت، وتهامس بعيدا عن أسماع الناس. وأصل النجوى من النجوة، وهى المكان المرتفع، حيث ينجو به الإنسان عادة من أن تناله الأعين، أو الأسماع، أو الأيدى.
والخطاب هنا للنبى صلى اللّه عليه وسلم، ولكل من هو أهل لتلقّى الخطاب والإفادة منه.. والاستفهام، يراد به فضح هؤلاء المتناجين، وضبطهم وهم متلبسون بهذا الإثم الذي يتعاطونه بينهم.
ومناسبة الآية لما قبلها، هى أن اللّه سبحانه قد ذكر في الآيات السابقة أنه يتوعد الكافرين الذين يعتدون على حرماته، بالعذاب الأليم المهين، وذلك في الآخرة، يوم يبعثهم اللّه جميعا، فينبئهم بما عملوا، وقد أحصى كل أعمالهم التي نسوها- فجاءت هذه الآية تحدث عن علم اللّه سبحانه وتعالى، وأنه علم وسع كل ما في السموات وما في الأرض، وأنه ما يكون من مناجاة بين ثلاثة إلا كان اللّه سبحانه وتعالى، مشاهدا هذه المناجاة التي بينهم حتى لكأنهم أربعة وليسوا ثلاثة.. وهذا يعنى أن ما يحسبونه سرا بين ثلاثتهم، ليس بسرّ، فقد حضره اللّه سبحانه وتعالى.. وكذلك ما يجتمع خمسة الحسارة إلا كان اللّه سبحانه سادسهم، يشهد الحديث الذي يديرونه بينهم، ويريدون إخفاءه عن غيرهم.
وفى قوله تعالى: {وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} هو استيفاء لجميع أعداد المجتمعين للنجوى.. من واحد يناجى نفسه، إلى ما لا نهاية له من الذين يتناجون فيما بينهم.
وعلى هذا، فلا محلّ للتساؤل عن الحكمة في ذكر هذين العددين: ثلاثة وخمسة، إذ لو ذكر أي عدد غيرهما لكان هذا التساؤل واردا عليه أيضا.
ولا يقطع هذا التساؤل إلا إذا ذكرت الأعداد جميعها، ابتداء من الواحد، إلى ما لا نهاية، وهذا ما لا يكون في كتاب غايته تقويم الأخلاق، وتهذيب النفوس، لا تربية الملكات الذهنية، وتدريب العقول الرياضية.
وقوله تعالى: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ} تهديد ووعيد لهؤلاء الذين يتناجون بما لا يحل من القول.. فاللّه سبحانه مطلع على ما يتناجون به، وسيحاسبهم عليه.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ.. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الذين نهوا عن النجدي: هم المنافقون، من الذين أظهروا الإسلام، واستبطنوا الكفر، من اليهود وغيرهم.
وقد وردت آيات كثيرة تفضح المنافقين، وما يدبّرون من كيد للنبى والمؤمنين، كما حملت هذه الآيات نذرا إليهم بالويل والبلاء في الدنيا والآخرة، إن هم لم يستقيموا على طريق الإيمان، ولم يخلصوا دينهم للّه.. ومن ذلك قوله تعالى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [108: النساء].
وهذه الآية تشنيع على المنافقين، ونذير من النذر إليهم، يفضح هذا النفاق الذي يعيشون فيه بين المؤمنين. إنهم ما زالوا على نفاقهم، لم يخرجوا منه، ولم ينتهوا عما نهوا عنه، فهم- حيث ضمهم مكان لا يكون لهم حديث إلا هذا الحديث الآثم، الذي يدبّرون فيه السوء، والمكروه للنبى وللمسلمين.. {وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ}.
هذا هو ما يتسارون به من أحاديث، وما يجرى على ألسنتهم من قول.. هو إثم، وعدوان، ومعصية للرسول.
وقوله تعالى: {وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ}.
هو فضح لأسلوب من أساليبهم الخبيثة التي دبروها فيما بينهم، وهو أنهم إذا جاءوا إلى الرسول حيّوه بتحية منافقة، يبدو ظاهرها سليما مقبولا، ولكنها تلف في باطنها إثما غليظا، ومنكرا شنيعا، حيث يقولون قاتلهم اللّه: السام عليكم يقولون ذلك بألسنة معوجة، تدغم فيها حروف الكلمة، فلا يستبين وجهها، فلا هى السام، ولا هى السلام.. إنها كلمة منافقة لا وجه لها، من أفواه منافقة مداهنة، لا يعرف وجه أصحابها.. والسام: الموت، والهلاك.. فهذه تحية المنافقين للنبى.. تحية بالدعاء عليه، لا بالدعاء له، وهى غير ما حياه اللّه به- في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [56: الأحزاب] وهى غير ما أمر اللّه المؤمنين أن يحيّوا النبي به.. في قوله سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [56: الأحزاب].
وفى قوله تعالى: {بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} تنويه بقدر النبي الكريم، ومنزلته عند ربه، وأنه سبحانه إذ يحييه تلك التحية المباركة الطيبة، فلا عليه إذا حياه المنافقون تلك التحية الآثمة المنكرة.
وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ} أي ومن مقولاتهم المنكرة التي يقولونها فيما بينهم وبين أنفسهم: {لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ؟} أي هلّا يعذبنا اللّه بما نقول من سوء في محمد؟ إنه لو كان محمد على صلة باللّه كما يدّعى لما خلّى اللّه بيننا وبينه، نرميه بالمنكر من القول، ثم لا يعاقبنا على ذلك؟! بل إنهم ليذهبون في الضلال إلى أبعد من هذا، فيستدعون العذاب من اللّه، إن كان للّه غيرة على محمد، ورعاية له!.
وقوله تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
هذا هو جواب ما سألوه من العذاب، وهو عذاب الآخرة، حيث يصلون نار جهنم، وذلك هو مصيرهم الذي يصيرون إليه وهم سائرون في طريق الضلال، وإنه لبئس المصير.. أفليس ذلك حسبهم من العذاب؟ ألا يكفيهم ما يلقون في جهنم من عذاب؟ أيريدون بعد هذا مزيدا منه؟.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
هو دعوة إلى هؤلاء المنافقين، الذين أظهروا الإيمان واستبطنوا النفاق، أن تكون مناجاتهم إذا تناجوا فيما بينهم، بعيدة عن مواطن الضلال والريب، وخالصة من الإثم والعدوان، ومعصية الرسول، محملة بالبر والتقوى، حيث يتبادلون الكلمات الطيبة، ويتناجون بها، فتكون رسل هدى، وخير، تسعى بينهم بالأمن والسلام، وتفتح لهم الطريق إلى البر والتقوى.
وقد جاء الخطاب إلى هؤلاء المنافقين بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} وذلك لإلفاتهم إلى هذا الإيمان الذي دخلوا به في جماعة المؤمنين، وأخذوا به مكانهم بينهم، ثم هم في الوقت نفسه حرب على المؤمنين، يضمرون العداوة لهم، ويبيتون السوء والضرّ بهم.. وهذه حال منكرة، ينبغى أن ينكروها هم على أنفسهم قبل أن ينكرها الناس عليهم.. فإما أن يكونوا مؤمنين، فلا يصل إلى المؤمنين منهم ما يسوء، وإما أن يكونوا على غير الإيمان، فيكون لهم أن يكيدوا للمؤمنين كما يكيد لهم الكفار والمشركون.. فالناس:
إما مؤمنون، وإما كافرون.. وهؤلاء ليسوا مؤمنين، وليسوا كافرين.
إنهم مذبذبون بين ذلك.. لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء.. وتلك أسوأ حال يكون عليها إنسان، حيث لا وجه له يعرف به في الناس.. إنه الوجه المنافق الذي يلبس أكثر من وجه!.
وقوله تعالى: للمنافقين {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} يحقق أمرين:
أولهما: فضح هؤلاء المنافقين عند أنفسهم، وضبطهم متلبسين بالكيد للمؤمنين، وهم في زىّ الإيمان.. وهذا من شأنه أن يخزيهم عند أنفسهم، وأن يحقر بعضهم بعضا، حين ينظر أحدهم إلى وجه صاحبه، فيراه مؤمنا يكيد للمؤمنين.
وثانيهما: أن نداءهم بالمؤمنين دعوة مجددة لهم إلى أن يكونوا مؤمنين حقّا، فهم إلى هذه اللحظة محسوبون في المؤمنين، لم يفضحهم اللّه بعد، ولم يطلع النبىّ والمؤمنين على خبيئة أنفسهم، بل ستر اللّه عليهم ما هم عليه من نفاق، وإن هذا الأمر لن يطول بهم، فإن لم يبادروا إلى الخروج من هذا النفاق المضروب عليهم، فضحهم اللّه، فلم يكن لهم بين المؤمنين مكان!.
قوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
النجوى، هنا، هى النجوى المعهودة من المنافقين، وليست مطلق النجوى، فالحرف {ال} هنا للعهد، حيث النجوى التي أشار إليها سبحانه بقوله:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى.. الآية} أي أن هذه النجوى التي يتناجى بها المنافقون، هى من تدبير الشيطان وكيده للمؤمنين، إذ يتخذ من هؤلاء المنافقين سلاحا يحارب به المؤمنين، حيث يجمع المنافقين على هذه المجالس الآثمة، فيتناجون فيما بينهم، ويتهامسون ويتغامزون على ملأ من المؤمنين، فيخيل للمؤمنين أن القوم يدبرون لهم كيدا، أو يظهرون بهم شماتة لأحداث يحيّلون للمؤمنين بهذه المناجاة أنها وقعت، ولم يعلمها المؤمنون بعد، أو لأحداث ستقع لم يكن عند المؤمنين حساب لها.. وهكذا نحدث هذه النجوى بلبلة واضطرابا في نفوس المؤمنين، فتذهب بهم الظنون كل مذهب، وتتداعى عليهم دواعى الضيق والحزن، ويشتمل عليهم ضباب كثيف، مما تتلمظ به هذه الشفاء الآثمة. من منكرات، وما تتغامز به العيون الزائغة من نظرات وإشارات.
وقوله تعالى: {وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي أن الشيطان لن يضر المؤمنين بهذا الكيد الذي يكيده لهم، وأن ما قد يقع للمؤمنين من ضر فهو مما قدره اللّه لهم، وشاءه فيهم. وقد يجىء هذا الضرر عن طريق الشيطان أو غيره، ولكن لا الشيطان ولا غيره يمستطيع أن يضر أحدا إلا من شاء اللّه له هذا الضر.
وقوله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} هو دعوة للمؤمنين ألّا يحفلوا بما يتناجى به هؤلاء المنافقون، وألا يعملوا له حسابا، فإن ذلك لن يأتيهم شر منه، إلا ما كان قد قدره اللّه عليهم.. وإذن فليتوكلوا على اللّه، وهو حسبهم ونعم الوكيل.


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} التفسح في المجالس: التوسعة فيها، حيث يسع بعضهم بعضا، وحيث يجد الطارئ عليهم، مكانا بينهم.
انشزوا: النشز، المكان المرتفع من الأرض، والخارج على المنبسط منها.
والمراد بالنشوز هنا، الخروج من المجلس.. ومنه الناشز، وهى المرأة الخارجة عن طاعة زوجها، والنشاز من كل شىء: الخارج على الوضع العام له.. ومنه قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً} [259: البقرة] ومناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة، أشارت إلى مجالس يتناجى فيها أهل المجلس، ويفضى بعضهم إلى بعض بسره.. أما المنافقون فلا يتناجى بعضهم إلى بعض إلا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول، وأما المؤمنون فيتناجون بالبر والتقوى.. فناسب ذلك أن يذكر ما ينبغى أن يأخذ به المؤمنون أنفسهم، من آداب في مجالسهم العامة التي لا مناجاة فيها والتي يباح لأىّ منهم أن يأخذ مكانه فيها، وذلك، حتى لا يقع في مجلسهم ما يثير ضغينة، أو يوقع عداوة.
ومما ألزم اللّه سبحانه وتعالى به المؤمنين من آداب المجلس، أن يوسع بعضهم لبعضهم، وأن يفسحوا للقادم عليهم مكانا بينهم، فهو أشبه بالضيف، ومن حق الضيف الترحيب به، وإنزاله منزل الإكرام.. وإكرام الوافد على المجلس، هو أن يجد له مكانا بين أهل المجلس، وأن ينزل المنزل المناسب له بينهم، حسب دينه، وعلمه.. فلا يتصدر المجلس جاهل وفى المجلس عالم، ولا يتصدره من رقّ دينه وفى أهل المجلس من كان ذا دين وتقوى.. وفى المأثور: «أنزلوا الناس منازلهم» ويذكر المفسرون لهذه الآية سببا للنزول، فيقولون: إن الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه، كان في مجلس وحوله بعض أصحابه، فجاء بعض وفود العرب إلى النبي، فسلموا فرد النبي والمسلمون عليهم السلام، ولم يفسح لهم أحد مكانا في المجلس، فلما رأى النبي ذلك، قال: قم يا فلان وقم يا فلان ويا فلان.. ثم دعا الوفد إلى الجلوس.. قالوا، فساء ذلك المسلمين الذين دعوا إلى القيام من مجلسهم، وشنع المنافقون واليهود على المسلمين بهذا، وقالوا لهم فيما قالوا: كيف يقول نبيكم إنما المؤمنون إخوة، ثم يكون منه هذه التفرقة في المعاملة بين أصحابه، فيخرج بعضا من المجلس دون بعض؟
وهذه المقولات التي تروى عن سبب نزول الآية الكريمة تبدو- على إطلاقها- واهية، لا معقول لها. وذلك:
أولا: أنه ليس من أخلاق العرب أن يفد عليهم وافد ثم لا يلقونه بالترحيب والاحتفاء، عدوّا كان أو صديقا.. فكيف بمن يفد على النبي؟ أفيعقل أن يفد على النبي وافد وهو بين أصحابه، ثم لا يلقاه أصحابه بالحفاوة والتكريم، ولا يفسحون له مكانا بينهم؟.. ذلك محال.
وثانيا: أيكون من أدب صحابة رسول اللّه، الذين يجلسون إليه أن تجمد مشاعرهم هذا الجمود، فلا يتحركون لوافد يفد على الرسول، حتى يدعوهم الرسول هذه الدعوة التي يخرجهم بها من مجلسه؟
وثالثا: أيكون من أدب النبوة أن يجرح الرسول بعض صحابته هذا الجرح الغائر، فيخرجهم عن أماكنهم، ويلقى بهم خارج المجلس؟ إنه لو اضطر الرسول الكريم إلى مثل هذا الموقف، لكان من تدبيره- صلوات اللّه وسلامه عليه- أن يتحول بأهل المجلس جميعا إلى مكان متّسع غير هذا المكان، ثم لأخذ بيد ضيفه الوافدين عليه، ولأنزلهم منزلهم في المجلس الجديد.
أما قوله تعالى: {إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا} فإن القول هنا ليس بلسان المقال، وإنما هو بلسان الحال. ومعنى هذا أنه إذا وجد المسلمون في مجلس، ثم دعت الحال إلى أن يدخل عليهم غيرهم، كان واجبا عليهم أن يفسحوا لهذا الغير، وأن يسعوه في مجلسهم، دون أن يقال لهم افسحوا.
فإن الانتظار إلى أن يقال لهم هذا القول لا يليق بالمؤمنين، فذلك أمر لا يكون إلا عن طباع بليدة، ونفوس جفّت مشاعر الإنسانية فيها.
وكذلك الشأن إذا دعت الحال إلى أن ينصرف أهل المجلس، وأن يغادروا مجلسهم بعد أن يأخذوا حاجتهم منه، فإن الجلوس بعد هذا مضيعة للوقت، داعية إلى طرق أحاديث من اللغو، والبعث بعد أن فرغ حديث الجد والنفع.
فليس هناك في تلك الحال قول يقال لأهل المجلس: أن انشزوا وانفضوا، وإنما الحال نفسها هى التي تدعو إلى انفضاض المجلس.. وهذا من شأنه أن يقيم المؤمن على حال من الوعى واليقظة، والالتفات الدائم إلى نفسه، والتنبه إلى ما حوله من الناس والأحداث، فلا يكون أبدا في حال من الذهول والتبلد، بحيث لا يتحرك إلا بمهماز، كما تتحرك الدواب البليدة بالسياط تنهال عليها.
وإذا أردنا أن نلتمس لهذا الخبر متأوّلا- على فرض صحته- فهو أن النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، لم يقل هذا القول إلا لجماعة من المنافقين، كانوا يحضرون مجلس النبىّ، ممن أشار إليهم سبحانه وتعالى بقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً.. أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ} [16: محمد]- فكان قوله صلوات اللّه وسلامه عليه، قم يا فلان، وقم يا فلان- هو إشارة إلى هؤلاء المنافقين، وفضحهم عند أنفسهم، وخزيهم بين جماعة المسلمين التي دخلوا فيها متلصصين، متربصين وقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}.
هو إشارة إلى هذه المشاعر اليقظى، وتلك الأحاسيس المرهفة، التي ينبغى أن يكون عليها المؤمن، فإنه بقدر ما يكون عليه المؤمن من هذه المشاعر وتلك الأحاسيس، بقدر ما تكون منزلته في الإنسانية.
والإيمان من شأنه أن يربىّ هذه المشاعر، وينمّى هذه الأحاسيس، وبمقياس الإيمان، تقاس هذه المشاعر وتلك الأحاسيس.
والعلم، شأنه في هذا شأن الإيمان، في رفع إنسانية الإنسان، وإعلاء منزلته.. فالإيمان، هو في حقيقته علم، والعلم في حقيقته إيمان.. وإن إيمانا لا يقوم على علم، هو إيمان هزيل باهت، لا يؤثر أثرا، ولا يطلع زهرا ولا ثمرا.
وإن علما لا يفتح للعقل والقلب طريقا إلى الإيمان، ولا تنقدح منه شرارات مضيئة، تضىء للإنسان طريقه إلى اللّه، هو نار تحرق، أو دخان يعمى العيون، ويزكم الأنوف، ويخنق الصدور.
وقد جمعت الآية الكريمة بين الإيمان والعلم، وجعلت كلّا منهما صفة لموصوف، كما يقول سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} ولم يجىء النظم هكذا: يرفع اللّه الذي آمنوا منكم وأوتوا العلم.
وذلك أن من الناس من يبدأ الطريق بالعلم، ثم يقوده هذا العلم إلى الإيمان.. ومنهم من يبدأ الطريق بالإيمان ثم، يقوده الإيمان إلى العلم.
فالمؤمن حقّ الإيمان.. عالم.
والعالم حقّ العلم.. مؤمن.
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
دعا اللّه سبحانه وتعالى المؤمنين في آية سابقة، إلى أن تكون مناجاتهم بالبر والتقوى، حيث يقول سبحانه: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}.
(9: المجادلة) فمناجاة المؤمنين بعضهم بعضا ينبغى أن تقوم على البر والتقوى.. فكيف إذن تكون مناجاتهم الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه؟ إنها حينئذ ينبغى أن تكون المناجاة الخالصة للبر والتقوى.
ولهذا جاء قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً} والمراد بتقديم الصدقة هنا قبل مناجاة الرسول، هو أن يلقى المؤمن رسول اللّه على طهارة وتزكية بهذه الصدقة التي يقدمها.. فالصدقة مرضاة للربّ، مطهرة القلب، كما يقول سبحانه: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} [103: التوبة].
وليس المراد بتقديم الصدقة هنا، أن توضع بين يدى النبي صلوات اللّه وسلامه عليه، وإنما المراد بها أن توضع في يد من يستحقها من الفقراء والمساكين وابن السبيل.
وهذه الصدقة التي يقدمها المؤمن الذي يغشى مجلس الرسول، هى- كما قلنا- مطهرة لهذا المؤمن، وإعداد له كى يلتقى بالنبي الكريم، وينتفع بهديه، حيث يكون في تلك الحال على قرب نفسىّ وروحى منه.. إن ذلك أشبه بالطهارة قبل الصلاة.. فالصلاة مناجاة للّه سبحانه وتعالى، ودخول إلى ساحة مغفرته ورضوانه، والطهارة قبل الدخول في الصلاة، هى التي تهيىء المؤمن نفسيّا وروحيّا للاتصال باللّه سبحانه، والقرب منه جل وعلا.. إنها أشبه بالاستئذان قبل الدخول.. فكما أنه لا يجوز للمؤمن أن يدخل بيتا غير بيته من قبل أن يستأذن، رعاية لحرمة المسكن وأهله- فكذلك ينبغى على المؤمن ألا يقتحم مقام الرسول، ويغشى حماه الطهور، من غير أن يقف بين يدى هذا الحمى، وأن يقدّم صدقة، يدخل منها على مشاعره أنه لن يؤذن له بالدخول إلى هذا الحمى، من غير استئذان! وقوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي هذا الفعل الذي تفعلونه بتقديم الصدقة قبل مناجاتكم الرسول- هو خير لكم، وأطهر، حيث يرضى اللّه سبحانه وتعالى عنكم، ويطهركم من ذنوبكم، فيكون لقاؤكم للرسول على صفاء نفس، وشفافية روح، فتصيبون كثيرا من الخير الذي بين يديه.
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فإن لم تجدوا صدقة تقدمونها، فلا حرج عليكم، إذ لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها، واللّه سبحانه يغفر لكم ذنوبكم، ويطهركم، حتى إذا ناجيتم الرسول كنتم على حال من الطهر كحال الذين قدموا صدقات بين يدى نجواهم، فاللّه سبحانه غفور، أي كثير المغفرة، تسع مغفرته الخلق جميعا، وهو رحيم بكم، فلا يحرمكم مغفرته التي قصرت أيديكم عن أن تنالوها بالصدقة.
وقوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ}.
المفسرون يكادون يكونون على إجماع بأن هذه الآية ناسخة للآية التي قبلها.. بمعنى أن تقديم الصدقة من المؤمن الذي يودّ مناجاة الرسول، قبل أن يدخل في مناجاته، والذي دعت إليه الآية السابقة- قد جاءت هذه الآية ناسخا له، تخفيفا على الذين يودون مناجاة النبي.
ويقولون لتعليل هذا النسخ، إنه لما نزل قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً}.
شقّ ذلك على كثير من المؤمنين، وضنّ كثير من الأغنياء بأموالهم أن يخرجوا منها صدقة عند مناجاة الرسول، وبهذا قلّت تلك الأعداد الكثيرة التي كانت تسعى إلى مناجاة النبي، فنزلت الآية: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} فنسخت الآية التي قبلها، وأبيح للمؤمنين مناجاة الرسول من غير صدقة يقدمونها بين يدى نجواهم!! ونحن على رأينا من أنه لا نسخ في القرآن، وأنه لا نسخ في هذه الآية بالذات.. وذلك من وجوه.
أولا: أن الصدقة التي دعى المؤمنون إلى تقديمها بين يدى نجواهم غير محددة المقدار، ومن هنا كانت أىّ صدقة يقدمها المؤمن في هذا المقام مجزية له، ولو كانت شقّ تمرة.. وإذن فليس في هذه الصدقة ما يشق على المؤمنين، حتى يجىء الأمر بنسخ تقديم هذه الصدقة.
وثانيا: ليس ما جاءت به الآية من الأمر بتقديم الصدقة- واللّه أعلم- أمرا ملزما، يقع موقع الوجوب، بل هو أمر للندب والاستحباب، ولذلك علّل له بقوله تعالى: {ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ}.
ثم جاءت المجاوزة عنه عند عدم وجود الصدقة: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وثالثا: قوله تعالى في الآية التي يقال إنها ناسخة: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ} ليس معنى كلمة الإشفاق هنا الضنّ بالمال الذي ينفق في هذا الوجه، وإنما هو الخوف من ألا يجد المؤمنون ما يتصدقون به في كل وقت يلقون فيه رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه.. وكثير منهم كان يلقى النبي كل يوم مرات كثيرة.. وخاصة صحابته الذين كانوا على اتصال دائم به، كأبى بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، وأبى عبيدة، وطلحة، والزبير، وأبى هريرة وغيرهم.. فهؤلاء الصحابة الكرام وأمثالهم، يشق عليهم أن يحجبهم عن الرسول حجاب في نهار أو ليل، وكثيرا ما تكون الصدقة غير ممكنة لهم في كل حال.. فهم- والأمر كذلك- بين حالين: إما، ألّا يلتقوا بالرسول حتى يقدموا بين يدى لقائهم صدقة.. وفى هذا إعنات شديد لهم، وخاصة أن لقاءهم للنبى يتكرّر مرات في اليوم.. وقد لا يكون بين يدى أحدهم ما يقدمه من صدقة.. وإنه ليس بالذي يرضى نفس هؤلاء الصحابة الكرام أن يكون لقاؤهم للنبى من غير تقديم صدقة، حيث يدخلون في حكم قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
فإن ذلك- وإن كان يبيح لهم لقاء النبي ومناجاته من غير صدقة- إلا أنه يضعهم في موضع لا يحبونه، ولا يرضونه لأنفسهم، إنهم يطلبون أن يكونوا على أحسن أحوالهم في لقائهم للنبى، وإنهم ليعدّون أنفسهم مقصّرين، إذا هم التقوا بالرسول من غير تقديم الصدقة، وإن كان ذلك متجاوزا لهم عنه!.
وإنه لكى يزول هذا الحرج من صدور الصحابة الذين لا يجدون الصدقة التي يقدمونها بين يدى مناجاتهم الرسول- جاء قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ}.
وجاء لفظ الصدقات جمعا، لا مفردا، وفى ذلك دليل على أن المراد بهذا، هم الصحابة الذين كانوا على لقاء دائم بالنبي، ذلك اللّقاء الذي يدعوهم إلى تقديم صدقات كلّ يوم، لا صدقة واحدة.
ومن جهة أخرى، فإنه من المحال أن يضنّ واحد من صحابة رسول اللّه بماله كله، ويمسك به، إذا كان هذا المال وسيلة إلى لقاء النبي.. فكيف والصدقة المطلوبة هى بعض من هذا المال؟.
ورابعا: قوله تعالى في هذه الآية أيضا: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يشير إلى أن الذين لم يفعلوا، أي لم يستطيعوا تقديم الصدقة- لا ضنّا بها، ولكن عجزا عنها- هؤلاء قد تاب اللّه عليهم، أي رحمهم، ورفع عنهم الحرج، وأفسح لهم الطريق إلى مناجاة النبي من غير تقديم الصدقة التي عجزوا عنها.
فالتوبة هنا، معناها الرحمة، والقبول، والرضا، فهى توبة من اللّه سبحانه وتعالى عليهم، أي عود عليهم منه سبحانه وتعالى بفضله ورحمته. ومثل هذه التوبة ما جاء في قوله تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} [117: التوبة] فالتوبة هنا توبة رضى وإحسان.
أما التوبة من العبد، فهى رجوع إلى اللّه بالندم، والانخلاع من المعصية.
وقوله تعالى {وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} جملة حالية من الفاعل في قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} أي إذ لم تقدموا الصدقة في حال قد قبلكم اللّه عليها، ورحمكم فيها.
وقوله تعالى {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ} هو جواب {إذ} التي تفيد مع الظرف معنى الشرط.. أي فإذ قد رحمكم اللّه، وعاد بفضله عليكم، ورفع عنكم الحرج في لقاء النبي من غير تقديم صدقة- فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأطيعوا اللّه ورسوله، فذلك هو شكركم للّه سبحانه وتعالى على ما فضل به عليكم.
ففى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة اللّه ورسوله، ما يقربكم من الرسول، ويقيمكم أبدا على طهارة دائمة، أشبه بمن يمدّ يده بصدقات لا تنقطع أبدا.
وعلى هذا فإنه ليس بين الآيتين تناسخ، بل إن كلا الآيتين من المحكم، وأنهما يتناولان أمرا واحدا، ويعالجان قضية واحدة، لا تتم أركانها إلا بالآيتين معا.. واللّه أعلم.

1 | 2